أتعطيني دمك أم مشاعرك؟
أتعطيني دمك أم مشاعرك؟
وقت طويل مضى منذ آخر مرة خط فيها قلمي سطور مقالة، ربما لم يتركني البشر
وشأني لأنعم بهوايتي المفضلة أو ربما "أنا الجاني" أنا من خشيت أن أكتب
شيء في أيامي العجيبة تلك... أمور كثيرة حدثت خلال شهور قليلة، كل المشاعر بلا استثناء
اجتاحتني؛ لذا ترددت كثيرًا قبل أن أكتب حرف، ولكن جاءني بريد إلكتروني يدعوني
للمشاركة في الاحتفال باليوم العالمي للتبرع بالدم.
أنا؟! هل يطلبون مني أنا ذلك؟! يا له من طلبٍ جريء! ستعرفون السبب بعد
قليل، ولكن تأهبوا للسفر معي للماضي، وتحديدًا لعام 1993 م، هذا العام أصيب فيه
دكتور ناجح بالصدأ العقلي حينما زرته أنا -كمريضة- حينها لم أدرك شيء؛ فطفلة في
الثالثة من عمرها ليس بيدها حيلة في مناقشة الطبيب واستجوابه كما أفعل الآن.
بعد سنوات أدركت -بالصدفة البحتة- أن هذا الناجح شخصّ مرضي خطأ وحكم عليّ
بأن أصبح مصاص دماء مدى الحياة، أصر على أني مريضة «ثلاسيميا «Thalassemia طبيب لا يعرف الفرق
بين الكهرباء الزائدة في المخ "Seizures" وبين تكسرات/
انحلال كريات الدم الحمراء Hemolysis"" قرر التفلسف على
حظي، وتسبب في خلق مشكلة بجسمي بدلًا من علاجي، تلك المشكلة كانت زيادة نسبة
الحديد في الدم Ferritin"" والتي تراكمت
بدورها على الطحال فتخلصوا منه، وما تبقى من مخزون الحديد ظلّ يهاجم كريات الدم
الحمراء ويقوم بتكسيرها، أنها أمور مُعقدة يا سادة؛ لذا دعونا نذهب لجولات كوميدية
وتراجيدية بعيدًا عن عالم المصطلحات الطبية.
قطرة دم تساوي حياة
كانت تلك الجملة التي أراها أمامي في بنك الدم على باب غرفة التبرع التي لم
أدخلها قط؛ فأنا مصاص دماء أمتص الدماء فحسب لا أعطيها.
في يوم من الأيام وجدت أمي تغادر المستشفى بعدما أخبروها أن الدم غير
موجود، وقتها فرحتي وصلت عنان السماء؛ فلا حقن حساسية ولا ساعتين ملل أنظر فيهما
لقطرات الدم المتساقطة في جهاز الوريد ولا شكشكة من «كالونة» تأبى العثور على وريد
وتستسلم لكل وريد هرب منه الدماء فتسعى وبشراسة لمطاردة واحد آخر غيره حتى يطيع
أمرها.
نعود لقصتنا ذهبت أمي لأقرب سوبر ماركت بجوار بنك الدم لتتصل بأبي، وقالت
(بصوت تخنقه العبرات): مفيش دم لـ هبه.
نظرت إليها ولسان حالي يقول: هل هذا ما يُبكيكِ الآن؟! هل كل تلك
"الشحتفة" من أجل قربة دم؟! هل سأموت لو لم أخذ دم أحدهم؟! وبما أن
البحث عن دم وقتها كان أسهل بكثير من الاقتراض من البشر الآن، خاصة وأن زمرة دمي B+ لذا لم تستمر معاناتي طويلًا، وأنقذني أحدهم بدمه
حينها.
الجن العاشق
هل سمعتم عن الجن العاشق من قبل؟ كان الدم بالنسبة لي كالجني العاشق، والذي
تخلصت منه لمدة خمس سنوات بمساعدة دواء " هيدروكسي يوريا"، وعشت كباقي البشر بمأمن عن نقل الدم تلك
الفترة، ولكن نكران النعمة وعدم شكرها جعل الجني العاشق يعود مجددًا ليُظلم شبحه
حياتي، وهنا حدث شيء عجيب حيث ارتبطت نسبة هيموجلبيني -طرديًا- بحالتي النفسية
فكلما انخفضت مؤشرات السعادة في قلبي كلما تراجعت نسبة كريات الدم الحمراء؛ لذا
فهمت السر، وأدركت أن حياتي الصحية تعتمد على ثلاثة أشياء لا أستطيع السيطرة عليهما،
وهي: "النوم، النفسية، الأكل".
مهلًا لا تفهموني غلط، وتظنون أني أعيش في مجاعة، أنا فقط من تلك النوعية التي اعتادت على الدماء أكثر من
طعام البشر؛ فأمسيت لا أشعر بالجوع ولا أشتهي شيئًا إلا نادرًا، وتلك حقيقة لا
أبالغ فيها ولا أزيفها.
أيؤثر الدم على الوظائف العقلية؟
قبيل امتحان الكيمياء في عامي الأول بالمرحلة الثانوية نقلت دم في فترة
تزامنت مع حادثة أكياس الدم الملوثة الشهيرة "هايدلينا"، والتي مستني
بسوء لدرجة أني نسيت كيفية حل مسألة في جزء الكيمياء العضوية كنت قد أخبرت أصدقائي
عنها قبل الامتحان بشهور، وقلت لهم: اسمعوا كلامي أنا قلبي حاسس المسألة دي هتيجي
إجباري في الكيمياء العضوية، وقد كان ولكني نسيت تمامًا في الامتحان خطوات حل
المسألة وكتبت للمصحح الرقم النهائي فقط فهو كل ما تذكرته من المسألة الأساسية التي
كنت أحفظها عن ظهر قلب، ومن وقتها قلت "توبة" وحرمت أنقل دم قبل أيّ حدث
مهم ومصيري في حياتي.
أتعطيني دمك أم مشاعرك؟
مع الوقت أصبحت أكثر شرًا وأكثر شراهة للدماء، ومع مرور الزمن اكتشفت أن
مشاعري وشخصيتي تتغير باستمرار ولا تستقر على شيء، وحينما استفسرت عن ذلك قال
طبيبي: أتعتقدين أنك تأخذين دماءهم فقط؟! أنتِ تأخذين معها مشاعرهم، أفكارهم، صفاتهم،
وجزء من شخصيتهم، ومن هنا أصبح كل كيس دم تمتصه أوردتي ويضخه قلبي في شراييني يحمل
معه أفكار جديدة، مشاعر مختلفة، وأشياء أكرهها تُجبرني على محبتها.
شهادة وفاة
دكتور «شوادفي» أكثر اسم لا أستطيع نسيانه أبدًا في حياتي، هذا الذي كتب
شهادة وفاة لي قبل مغادرته المستشفى؛ لأنه أدرك أن كيس الدم الذي التهمته كان به
خطب يؤدي للوفاة؛ فأراد أن يمنحني ليلة هانئة في القبر بدلًا من انتظاري له في
الغد كجثة هامدة تريد تصريح الوفاة، ولكن مشيئة الله حالت دون ذلك وجاء في اليوم
التالي ليجدني على قيد الحياة؛ فقال لي ضاحكًا (جملة لن أنساها قط) وهي: يا هبه
أنتِ لسه عايشه أن كتبت لك شهادة الوفاة قبل ما أمشي إمبارح.
توايلات ليس فانتازيا
أتتذكرون فيلم "Twilight"؟ في الفيلم كان البطل يخاف من الأيام المُشمسة
كي لا تظهر بشرته اللامعة كالماس للجميع، في شمس الصيف ستجدون بشرة كل مرضى
الثلاسيميا تلمع كالذهب بمجرد تعرضها لأشعة الشمس المباشرة، هذا حدث معي بالفعل،
بالإضافة لبعض التغيرات العجيبة التي تُصيبنا بعد نقل الدم؛ فأحيانًا تزيد معدلات
ذكائنا العاطفي وإدراكنا الذهني، أو قد نتحول لسبايدرمان بسبب فرط الحركة، هناك
تغيرات أخرى ولكني لن أخبركم بها؛ فأنا أخشى عليكم من الخوف والابتعاد عن مقالاتي وأعمالي الأدبية في
المستقبل.
تركت ابنها لأجلي
تريدون رؤية المصريين بحق؟ دعوني أخبركم عن سيدة تركت ابنها المريض بالحمى
الشديدة في غرفة الطوارئ من أجل التبرع بدمها لي، يومها وجدتني أشبه بالزومبي أو كمصاص دماء قرر التخلي عن حياته فشحبت بشرته وابيضَّت شفتاه.
أسرعت للطبيب -بعدما تركت ابنها الصغير لأبيه- وأخبرته أن فصيلتها كزمرة
دمي وأنقذتني يومها.
من كل ما سبق قارئي العزيز أحب أن ألفت نظرك لشيء هام، وهو: الله وهبني
ملائكة تبرعوا بدمائهم لي في الثلاثين
عامًا الماضية، عرفت منهم خمسة أشخاص فقط، كانت أمي من ضمنهم وتلك التي تركت ابنها
من أجلي، ولكن الباقي اكتفوا بكونهم ملائكة أنقذوا حياتي -بعد ربنا- ولم يتركوا لي
فرصة واحدة لأشكرهم على صنيع عملهم؛ لذا كتبت تلك المقالة لأشكرهم، وأتمنى أن
تعذروا قلمي الذي جعلكم تبكون؛ فأنا هكذا -كما أخبرتكم- دمي يحمل آلاف من الشخصيات
والمشاعر التي أخذتها من دماء ملائكتي.
ليست هناك تعليقات